سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}
اعلم أن قوله: {كَيْفَ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل كونه معلوماً أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد (ولم يبقوا عليكم) هذا هو المعنى، ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال: ظهرت على فلان إذا علوته، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه.
قال الليث: الظهور الظفر بالشيء. وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} [الصف: 14] وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] أي ليعليه، وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال، ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوباً صار كالناقص، والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله: {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يريد أن يقدروا عليكم وقوله: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ} قال الليث: رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوباً وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} [طه: 94] أي لم تحفظه، أما الأول ففيه أقوال: الأول: أنه العهد قال الشاعر:
وجدناهم كاذباً إلهم *** وذو الإل والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني: قال الفراء: الإل القرابة.
قال حسان:
لعمرك أن إلك من قريش *** كإل السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الإل الحلف.
قال أوس بن حجر:
لولا بنو مالك والإل مرقبه *** ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف.
والرابع: الإل هو الله عز وجل، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال: إن هذا الكلام لم يخرج من إل، وطعن الزجاج في هذا القول وقال: أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول: يا إل.
الخامس: قال الزجاج: حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشيء، فمن ذلك الألة الحربة. وأذن مؤللة، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة.
السادس: قال الأزهري: أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية، فجائز أن يكون عرب. فقيل إل.
السابع: قال بعضهم: الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا، إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه، وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته، ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت، فالعهد سمي إلا، لظهوره وصفائه من شوائب الغدر، أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه.
أما قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} فالذمة العهد، وجمعها ذمم وذمام، كل أمر لزمك، وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة، وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه، يعني ما يجتنب فيه الذم يقال: تذمم فلان، أي ألقى على نفسه الذم، ونظيره تحوب، وتأثم وتحرج.
أما قوله: {يُرْضُونَكُم بأفواههم وتأبى قُلُوبُهُمْ} أي يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً، والذي في قلوبهم بخلاف ذلك، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: الموصوفون بهذه الصفة كفار. والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم.
السؤال الثاني: أن الكفار كلهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} فائدة.
والجواب عن الأول: أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمراد هاهنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود {أَكْثَرُهُمْ فاسقون} في دينهم وعند أقوامهم، وذلك يوجب المبالغة في الذم.
والجواب عن الثاني: عين ما تقدم، لأن الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب، ونقض العهد والمكر والخديعة، وقد يكون موصوفاً بذلك، ومثل هذا الشخص يكون مذموماً عند جميع الناس وفي جميع الأديان، فالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة، وأيضاً قال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب، فلهذا السبب قال: {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
أما قوله: {اشتروا بئايات الله ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ} ففيه قولان: الأول: المراد منه المشركون.
قال مجاهد: أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه، وترك حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة.
الثاني: لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا المشركين على نقض تلك العهود، فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكراراً محضاً، ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكراراً، فكان ذلك أولى.
ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون} [التوبة: 10] يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد، وفي ذلك نهاية الذم، والله أعلم.


{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة، وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له، بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم، فجمع ذلك الشيء بقوله: {فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين} وهو يفيد جملة أحكام الإيمان، ولو شرح لطال.
فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة {إن} عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين، وهو مشكل لأنه ربما كان فقيراً، أو إن كان غنياً، لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة.
قلنا: قد بينا في تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المعلق على الشيء بكلمة {إن} لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء، فزال هذا السؤال، ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة {إن} عدم عند عدم ذلك الشيء، فهاهنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً، فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة، ومن لم يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه، وجب عليه أن يقر بحكمها، فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة، وكان ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين، أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة، وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله: {فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين} بحثان: الأول: قوله: {فَإِخوَانُكُمْ} قال الفراء معناه، فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم} [الأحزاب: 5] أي فهم إخوانكم.
الثاني: قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة، وهذا غلط يقال للأصدقاء، وغير الأصدقاء أخوة وأخوان.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يعن النسب.
وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إخوانكم} [النور: 61] وهذا في النسب.
قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
ثم قال: {وَنُفَصّلُ الأيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال صاحب الكشاف: وهذا اعتراض وقع بين الكلامين، والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
ثم قال: {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه، ومنه قوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنكاثا} [النحل: 92] والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل: للحلف يمين، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل: سمي القسم يميناً ليمين البر فيه. فقوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم} أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان: الأول: هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان، ولذلك قرأ بعضهم {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} والأول أولى للقراءة المشهورة، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد. وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} يقال طعنه بالرمح يطعنه، وطعن بالقول السيء يطعن.
قال الليث: وبعضهم يقول: يطعن بالرمح، ويطعن بالقول: فيفرق بينهما، والمعنى أنهم عابوا دينكم، وقدحوا فيه.
ثم قال: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أَيمَّةَ الكفر} بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق.
قال الزجاج: الأصل في الأئمة أأمة، لأنها جمع إمام، مثل مثال وأمثلة، لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة، فصارت أأمة، فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة. هذا هو الاختيار عند جميع النحويين.
إذا عرفت هذا فنقول: قال صاحب الكشاف: لفظة أئمة همزة بعدها همزة بين بين، والمراد بين مخرج الهمزة والياء.
أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة. وإن لم تكن مقبولة عند البصريين.
وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف.
المسألة الثانية: قوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} معناه قاتلوا الكفار بأسرهم، إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم.
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ} قرأ ابن عامر {لا أيمان لَهُمْ} بكسر الألف ولها وجهان: أحدها: لا أمان لهم، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الإخافة، والثاني: أنهم كفرة لا إيمان لهم، أي لا تصديق ولا دين لهم، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يميناً، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم} ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث.
ثم قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه من الكفر، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان.


{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
اعلم أنه تعالى لما قال: {قَاتَلُواْ أَئِمَّةَ الكفر} [التوبة: 12] أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال: {أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ}.
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها: نكثهم العهد، وكل المفسرين حمله على نقض العهد.
قال ابن عباس والسدي والكلبي: نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم.
وثانيها: قوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله.
واختلفوا فيه فقال بعضهم: المراد إخراجه من مكة حين هاجر.
وقال بعضهم: بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل.
وقال آخرون: بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه. وقوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} إما بالفعل وإما بالعزم عليه، وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه.
وثالثها: قوله: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني بالقتال يوم بدر، لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه.
والقول الثاني: أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد، وهذا قول الأكثرين، وإنما قال: {بدؤكم} تنبيهاً على أن البادئ أظلم، ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها، فقال: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه:
الأول: أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية، والثاني: أنك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك كان ذلك تحريكاً منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه، والثالث: أن قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} يفيد ذلك كأنه قيل: إن كنت تخشى أحداً فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة، والضرر المتوقع منهم غايته القتل.
أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدنيا، والرابع: أن قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} معناه: أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة، ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد.
بقي في الآية أبحاث:
البحث الأول: حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا: إذا قلت لا تفعل كذا، فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده، والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل، فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل، وليس إنما تستعمل لنفي الحال. فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال.
البحث الثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: {أَلاَ تقاتلون قَوْماً} ترغيب في فتح مكة وقوله: {قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم} أي عهدهم، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم، فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم يستجير بها فأبت، وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا، فخاطب أبا بكر فأبى، ثم خاطب عمر فتشدد، ثم خاطب علياً فلم يجبه، فاستجار بالعباس وكان مصافياً له فأجاره، وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئاً، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً وحصل الفتح عند ذلك، فهذا ما قاله ابن عباس.
وقال الحسن: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك، لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة، وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار.
البحث الثالث: قال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات.
قال القاضي: إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ولا مقصراً فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا وهناك كره للقتال لم يصح أيضاً، لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع.
البحث الرابع: دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه، وأن لا يخشى أحداً سواه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8